المساعدة المالية الفاعلة: دول مجلس التعاون ومصر

خلال قمة شرم الشيخ في منتصف شهر مارس، أبرمت دول مجلس التعاون اتفاقيّات لتقديم مساعدات مالية لجمهورية مصر العربيّة تبلغ قيمتها ما يزيد عن 12 مليار دولار أمريكي، وتغطي كافة المجالات كالطاقة والبنية التحتية والتجارة الخارجية. وهنا من الطبيعي أن يسأل المواطن الخليجي نفسه: كيف يمكن صياغة هذه المساعدات لتحقيق أكبر مردود للدول الخليجية ولمصر؟

ولا تمثّل هذه التعهدات الخيرية والاستراتيجية سياسة جديدة، بل إنها مجرد حلقة في سلسلة طويلة من دعم مالي وجّهته الدول الخليجية نحو دول نامية منذ بداية طفرة النفط. ففي الفترة 2011-2014، قدّمت المملكة العربيّة السعودية – وهي من أكرم الحكومات دولياً – مساعدات مالية إلى مصر بلغت قيمتها 6 مليارات دولار، بالإضافة إلى مليارات من الدولارات لدول عربية أخرى كاليمن، والأردن، والمغرب، والسودان، وطبعاً مملكة البحرين وسلطنة عمان من ضمن خطة داخلية لمجلس التعاون.

وتعود ثقافة المساعدة المالية بمفهومها الحديث إلى المساعدات العسكرية التي قدمتها القوى الكبرى خلال القرن الثامن عشر لحلفائها أثناء الحروب مع أعداء مشتركين. وعلى سبيل المثال، بعد أن هزمت المملكة المتحدة فرنسا في حرب السبع سنوات (1754-1763)، بحثت فرنسا عن فرصة للانتقام، وبرزت تلك الفرصة في حرب الثورة الأمريكية في 1776، حيث قدّمت فرنسا كمّاً هائلاً من الدعم العسكري والمالي إلى المتمردين الأمريكيين؛ حتى حققت هدفها الأول، وهو هزيمة أعدائها الإنجليز وإنجاز الاستقلال الأمريكي.

واتخذت المساعدات المالية نمطاً جديداً في القرن التاسع عشر، حينما بدأت القوى الكبرى تعزّز البنية التحتية في مستعمراتها، مثل إنشاء شبكة سكة الحديد في الهند بتمويل وتنظيم إنجليزي. وتطوّرت السياسة في القرن العشرين حينما تأثرت الحكومات الغربية بمبادئ إنسانية، بالإضافة إلى أهداف سياسية جديدة، على رأسها مكافحة انتشار الشيوعية، والتي تسببت في أشهر مشروع مساعدات مالية في تاريخ البشرية، وهو خطة «المارشال» بعد الحرب العالمية الثانية. وتمّ الآن تقنين جزء كبير من المساعدات عبر إنشاء مؤسسات دولية مخصّصة لتوزيع ومتابعة المساعدات المالية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

وتراكمت للبشرية خبرة ملحوظة عن عوامل النجاح والفشل في المساعدات المالية الدولية، وذلك نتيجة للدراسات العديدة التي أجراها العلماء عن تأثيرات مشاريع المساعدات الدولية. واهتم الباحثون بهذا الموضوع بسبب شعور شائع بأن المساعدات المالية تُهدر، ولا تفيد المتبرّع أو المستلم، خصوصاً في ظل المليارات التي قُدمت إلى دول أفريقيا دون مردود ملموس لأيّ طرف. ولا بدّ أن تستفيد الدول الخليجية من هذه الخبرة حينما تدير الدعم الّذي تقدّمه إلى مصر وغيرها، حالياً ومستقبلاً. فما هي مواصفات المساعدات الناجحة تاريخياً؟

أولاً: التشاور مع أصحاب المصلحة في الدولة المستلمة؛ لكي يضمن المتبرع أنّ المساعدات غير المالية تلبي احتياجات المستلم. وعلى سبيل المثال، لا فائدة للإمارات من بناء عيادة علاج السرطان في منطقة يشتكي سكانها من أمراض أخرى. وإحدى الخطوات المفيدة لأجل هذا الغرض هي إشراك محليين في ملكية المشروع، فهذا يحفّز أصحاب المصلحة على دراسة احتياجاتهم بجدية والتعبير عن آرائهم بشكل رسمي.

ثانياً: الشراكة المالية مع أصحاب المصلحة في الدولة المستلمة تفادياً للفساد في إدارة الأموال. فإن قدمت البحرين أموالاً لبناء مدرسة في دولة ما، قد تكتشف البحرين بعد 10 سنوات أنّ 90% من الأموال سرقت، وأنه قد تمّ بناء مدرسة رديئة بالمبالغ الزهيدة المتبقية. ولكن إن قدّمت البحرين أموالاً تغطّي نصف تكلفة بناء مدرسة، على شرط أنّ جهات محلية تتقدّم بالنصف الأخر، فاحتمال نجاح المشروع أعلى؛ وتضمن البحرين في هذه الحالة حدّاً أدنى من الجدّية والإدارة الرشيدة؛ لأنها تتعامل مع ناس تمكّنوا من إكمال نصف المشروع دون مساعدة خارجية.

ثالثاً: اغتنام فرص التطوير التكنولوجي؛ لكي تستفيد الدولة المتبرّعة. وعلى سبيل المثال، السعودية بحاجة لتطوير تقنيات الطاقة الشمسية للمناخ الصحراوي، ومصر بحاجة للاستثمار في قطاع الطاقة، فمن الممكن دمج المشروعين في مشروع تطوير طاقة شمسية في مصر. وسيعزّز هذا المشروع قدرات علماء سعوديين ومصريين؛ ممّا يشكّل مردوداً إضافياً.

رابعاً: رعاية الاعتماد الذاتي في الدولة المستلمة، حتى ولو عن طريق التهديد بسحب الدعم، إن شعرت الدولة المتبرّعة بروز ثقافة الاعتمادية. وعلى سبيل المثال، إن بَنَتْ دبي مطاراً جديداً في الصومال، سيعتمد نجاح المشروع على تأهيل كادر صومالي قادر على إدارة المطار بكفاءةٍ وبشكلٍ مستدام.

خامساً: وهو أهمّ عامل للنجاح، ويتكوّن من عنصرين – الرقابة المستدامة القائمة على تبادل شبه فوري للمعلومات، بالإضافة إلى المرونة في تطبيق المشروع. هذان العنصران يسمحان معاً في تكييف المشروع حسب المتغيرات الحديثة، وهذا أمرٌ مهمّ للغاية، خصوصاً في المشاريع طويلة المدى كالاستثمارات في البنية التحتية. وعلى سبيل المثال، حينما تسعى السعودية إلى تطوير آبار النفط في ليبيا – وهي دولة تعاني من قلة الاستثمار على مدى سنوات عديدة – فعليها أن تتابع يوميات التنفيذ وربط المساعدات بإنجازات فرعية وانتقالية، والتهديد بسحب جزئي للمساعدات، إن ظهر سوء إدارة من الجانب الليبي. وينبغي متابعة المليشيات التي تهدف إلى التحكّم في المنشآت النفطية؛ لأنها قد يكون لها دور كبير في إحباط المشروع، وبما أنّه يصعب التنبّؤ بتحرّكات تلك المليشيات، ينبغي أيضاً رسم خطط مرنة تأخذ في الاعتبار المخاطر الأمنية التي قد تستدعي تغيير المشروع بشكل جذري ومستعجل.

ختاماً، حوّل النفط الدول الخليجية من دول مستلمة للمساعدات المالية الدولية إلى دول مقدّمة للمساعدات، وأصبحت تنافس الدول الغربية في نفوذها في بعض المناطق بسبب قدراتها المالية. ولربما يكون أهمّ مبدأ توصّل إليه صنّاع القرار الغربيون في مجال المساعدات المالية هو إمكانيّة ربط الهدف الإنساني بالهدف الاستراتيجي، إذا كانت المساعدات مدروسة ومصمّمة بشكل صحيح. وإن شاء الله ستؤدي صفقات شرم الشيخ إلى إنجازات عديدة تعود بالفائدة على كلّ من الشعبين الخليجي والمصري.

«مَّن يَشفَع شَفَـٰعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنهَا‌ۖ وَمَن يَشفَع شَفَـٰعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُۥ كِفلٌ مِّنهَا‌ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىءٍ مُّقِيتًا» (4:85)

Related posts