في يوليو 2024 أصدرت حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة «ميثاق تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي» ويقع في أربع صفحات وقد جاء في ديباجة الميثاق أنه يعتبر إطاراً استرشاديا للإشراف الأخلاقي وترسيخ مكانتها كدولة رائدة في هذا المجال وذلك بحلول عام 2031م، وواقع الأمر أن ذلك الميثاق يكتسب أهميته من ثلاث اعتبارات أولها: أن دول الخليج العربي من بينها دولة الإمارات تصنف ضمن الدول التي لديها بنية رقمية متقدمة للغاية وبقدر ما تتيحه لها الثورة الرقمية من فرص فإنها تفرض تحديات بما تطلب ضرورة تقنين استخدام تلك التقنيات، وثانيها: لايزال الحديث متجدداً حول ضرورة وجود استراتيجيات أو مواثيق بشأن استخدامات الذكاء الاصطناعي ليس فقط على المستوى الوطني ولكن على المستوى العالمي سواء بالنسبة إلى الدول الكبرى أو المنظمات، ومن ثم فإن وجود مواثيق وطنية محددة يمكن أن تسهم في وجود توافقات بين الدول على أفضل السبل للتعامل مع تلك التقنيات، وثالثها: أن التحدي الأكبر لثورة الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن ليس فقط في تقنين استخدامها على المستوى الوطني ولكن في كيفية حماية الأمن الوطني للدول عموماً بالنظر لتداعياته الأمنية.
الميثاق الذي أصدرته الحكومة الإماراتية تضمن 12 مبدأً وهي: تقوية الروابط بين الإنسان والآلة، السلامة، التحيز الخوارزمي، خصوصية البيانات، الشفافية، الرقابة البشرية، الحوكمة والمساءلة، التميز التكنولوجي، الالتزام الإنساني، التعايش السلمي مع الذكاء الاصطناعي من أجل مستقبل يشمل الجميع، الالتزام باللوائح والقوانين والمعاهدات السارية في البلاد وجميعها مبادئ تتضمن تحقيق التوزان بين الاستفادة من تلك التقنيات والحفاظ على الأمن المجتمعي.
وواقع الأمر أن تلك المبادئ من شأنها أن تعزز من جهود دولة الإمارات في الاستمرار بتوظيف تلك التكنولوجيا ليس فقط على الصعيد المجتمعي وإنما على الصعيدين الأمني والعسكري وهما المجالان اللذان يستقطبان اهتمامي، حيث تضمنت استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي عام 2017 توقع الأزمات وإدارة الأزمات بكافة أنواعها سواء الصحية أو المناخية أو المجتمعية، ويلاحظ أنه حتى ما قبل أزمة كورونا استطاعت دولة الإمارات توظيف الذكاء الاصطناعي للحد من حوادث الطرق وتحسين الخدمات العامة، وخلال أزمة كورونا لعب الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً للغاية في تشخيص الحالات المصابة والتعامل معها، فضلاً عن توظيف الذكاء الاصطناعي في المجال الأمني من خلال نماذج «المحاكاة» والتي استهدفت تدريب أفراد الأمن على كيفية التعامل مع الأزمات، بالإضافة إلى تعزيز قدرات رجال الأمن خلال التعامل مع مواجهة الجرائم سواء جمع الأدلة أو التعرف على المشتبه بهم وجميعها مجالات تصب في النهاية في دعم تنفيذ خطط الدولة في المجالات كافة، وعلى الصعيد العسكري لاشك أن تجربة دولة الإمارات بشأن التصنيع الذاتي والتي حققت فيها نتائج مهمة كان الذكاء الاصطناعي حاضراً وبقوة سواء من خلال توطين الصناعات أو إبرام عقود مع بعض الدول تضمنت نقل تلك التكنولوجيا.
ومع أهمية ما سبق، فإن دول الخليج العربي عموماً مدعوة لإصدار ميثاق خليجي جماعي حول الذكاء الاصطناعي وذلك في ظل ثلاثة أمور الأول: إقرار الاتحاد الأوروبي أول قانون لتنظيم الذكاء الاصطناعي الذي دخل حيز التنفيذ رسميا في الأول من أغسطس2024، والذي يتضمن العديد من المواد ولكنها تصب في النهاية في هدف شامل وهو حماية الحقوق الأساسية لمواطني 27 دولة وفي الوقت ذاته يستهدف التحفيز على الاستثمار والابتكار ويشمل كافة المنتجات والخدمات التي تقدم في الاتحاد ولاشك أن دول الخليج في ظل جهودها للتكامل الاقتصادي ستكون بحاجة إلى مثل ذلك القانون الموحد، وثانيها: مع أهمية الجوانب الاقتصادية والمجتمعية لتلك التقنية، فإن الذكاء الاصطناعي الآن يعتبر معياراً أساسياً لتصنيف قوة الدول، وفي هذا الإطار قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «إن من يسيطر على الذكاء الاصطناعي سوف يسيطر على العالم»، فضلاً عن صدور تقرير للجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي «الناتو» في أكتوبر 2022 تضمن أن «للذكاء الاصطناعي آثار مدمرة على القدرات العسكرية، ومن المتوقع أن يزداد هذا الأثر بشكل كبير خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة»، والثالث: تأثير الذكاء الاصطناعي على مفاهيم الأمن الوطني مثل الردع وتوازن القوى وغيرها من المفاهيم، فالآن بإمكان شخص أو مجموعة أفراد تهديد أمن دولة بأكملها من خلال التوظيف السيء لتلك التكنولوجيا ليس أقلها الهجمات السيبرانية التي تستهدف المنشآت الحيوية للدول والأمثلة على ذلك عديدة.
وفي تقديري ومع أهمية إصدار مواثيق لتنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي فإن ثمة متطلبات أخرى لتعظيم الاستفادة من تلك التقنيات التي أضحت ضرورة استراتيجية ومن ذلك توظيف مقومات دول الخليج وخاصة في التحتية الرقمية المتميزة ومنها شبكات الاتصالات المتميزة والخدمات السحابية وقد تمكنت دول الخليج من الاستثمار في تلك المجالات بنجاح كبير، من ناحية ثانية يمكن لدول الخليج العربي توظيف التنافس الدولي تجاه المنطقة بالسعي للحصول على التكنولوجيا الحديثة ضمن أطر تلك الشراكة أو على الأقل الدخول في مشروعات تصنيع عسكري مشتركة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، من ناحية ثالثة وفي ظل وجود مؤشرات من جانب دول الخليج لتعزيز التكامل الخليجي خلال عام 2024 في العديد من المجالات وضمن إعلان مجلس التعاون رؤية لتهديدات الأمن الإقليمي للمرة الأولى في مارس 2024 فإن ذلك يعد فرصة مهمة لتبني الأمانة العامة لمجلس التعاون مشروعاً خليجياً مشتركاً لتوظيف التكنولوجيا في المجال العسكري من خلال تكامل جهود دول الخليج العربي في هذا الشأن بما يسهم في النهاية في تعزيز مفهوم الأمن الذاتي لدول الخليج، ومن ناحية رابعة توجد أهمية لتكامل جهود دول الخليج العربي بشأن التعليم والتدريب اللازمين للتعامل مع التكنولوجيا العسكرية من خلال التعاون بين الكليات التقنية المعنية وكذلك كليات الدفاع الوطني في دول الخليج العربي الست، فضلاً عن تبادل التجارب والخبرات حول توظيف التكنولوجيا في المجال الأمني في ظل تشابه ظروف تلك الدول، وأخيراً مع استهداف طرق النقل البحري التي تعتمد عليها دول الخليج العربي في تجارتها مع العالم وكذلك استهداف السفن التجارية، فإن توظيف التكنولوجيا في حماية الأمن البحري يجب أن يكون هدفا ذا أولوية في الوقت الراهن، وهو ما يتطلب تنسيق جهود دول الخليج العربي في التفاوض مع الشركات الدولية الكبرى التي تحتكر تلك التكنولوجيا بحيث يمكن تحقيق التكامل بين الجهود الخليجية في هذا المجال.
ولا شك أن اهتمام المنح العلمية لأبناء الخليج بالذكاء الاصطناعي سيكون عاملاً مهماً لتأسيس كوادر بشرية لإدارة تلك التقنيات لتعظيم الاستفادة منها ودرء مخاطرها.
المصدر: أخبار الخليج
الدكتور أشرف كشك، باحث أول