في مطلع قمّة مجموعة العشرين في سبتمبر 2016، قالت رئيسة وزراء المملكة المتحدة تريزا مي: “سوف أتحدّث مع الزعماء العالميين الآخرين عن كيفية تنمية التجارة الحرّة حول العالم، وتسعى بريطانيا لاغتنام تلك الفرص. وأطمح إلى أن تصبح بريطانيا قائداً عالمياً في التجارة الحرّة.”ـ
هذه كلمات مشجّعة للاقتصاد؛ حيث إنّ التجارة الدوليّة شكّلت أحد أهم أسباب مرور العالم بقرنين من الازدهار. ولكنّ نظرة دقيقة في سياسات التجارة البريطانية – خلال القرن التاسع عشر – فضلاً عن التصوّرات العامة حول تلك السياسات، تكشف أنّ هناك حاجة ملحّة لقياس حرية التجارة، بشكلٍ صحيح، إن كنّا نرغب في التأكّد من مدى التزام ” مي” بمبدأ التجارة الحرّة.ـ
كانت بداية القرن التاسع عشر مليئة بالاضطرابات والتقلّبات. وحسب الفكر التقليدي، فقد حدثت ثلاثة تطورات مثيرة للاتنباه. أولاً: في عام 1805، أكّدت بريطانيا سيطرتها الملاحية العالمية عبر الانتصار على الأسطول الفرنسي في معركة ترافلغار. وبعد مرور عشر سنوات، ساهمت بريطانيا في هزيمة القوات الفرنسية البرية في معركة واترلو. وهُزمت فرنسا للمرة الثالثة، وفي المجال الاقتصادي، حينما تبنّت بريطانيا سياسة التجارة الحرّة، بينما استمرّت فرنسا في سياسة الحماية. ويفترَض أنّ ذلك ساهم في الضعف النسبي في أداء الاقتصاد الفرنسي في الفترة ما قبل 1860.ـ
ولكن هل نفّذت بريطانيا فعلاً سياسة التجارة الحرّة؟ في كتاب له نُشر في عام 2007، بعنوان «الحروب، والخمر، والضرائب»، عارض المؤرخ الاقتصادي جون ناي من جامعة جيورج ميسون الرأي السائد حول التباين التجاري الفرنسي- الإنجليزي.ـ
ويتفق المؤرخون على أنّه مع حلول العقد الخامس للقرن التاسع عشر، لم تُطبَق تعاريف على الأغلبية الساحقة من الواردات البريطانية، تواؤماً مع التصوّر بأنّ بريطانيا كانت من أنصار التجارة الحرّة. وأبرز مثالٍ لذلك كان إلغاء قوانين القمح في الفترة 1840-1850؛ حيث إنّ الاقتصاد الكلّي استفاد، كما يتوقَع عند التحرير التجاري. وكالعادة، احتوى المستفيدون – وهم الناس العاديون الذين أصبحوا يدفعون أسعاراً أقلّ للمواد الغذائية – على مجموعات كبيرة العدد وغير منظّمة سياسياً؛ بينما كان الخاسرون – وهم المزارعون وأصحاب الأراضي – قليلي العدد، ومتمّيزين بعلاقات متينة مع أصحاب القرار في الحكومة. وتطلّبت الأوضاع المرور بإجماعٍ قاسٍ لتشكيل الضغط السياسي اللازم للانتصار على اللوبي الريفي.ـ
ولكنّ انعدام التعاريف في الغالبية الساحقة من السلع لا يساوي التجارة الحرّة المطلقة، لاسيما إن كانت الاستثناءات المحدودة تعتبَر من أهم عناصر التجارة الدولية. وفي حالة بريطانيا، استمرت الحكومة في فرض تعرفة عالية جداً على الخمر الفرنسي.ـ
في منتصف القرن السابع عشر، كانت بريطانيا تستورد كميات كبيرة من الخمر الفرنسي، ولكن الحروب الإنجليزية-الفرنسية عرقلت التجارة، ممّا فتح الباب للصادرات البرتغالية. وتسبّب ذلك في إنشاء ثلاثة لوبيّات مستفيدة من سياسة إبعاد الخمر الفرنسي عن بريطانيا: المنتجون الإنجليز للبيرة، وللوسكي، فضلاً عن الجهات البريطانية المسؤولة عن نقل الخمر البرتغالي إلى بريطانيا. وتعاونت تلك الجماعات لفرض تعرفة مرتفعة جداً على الخمر الفرنسي، حتى بعد انتهاء الصراع العسكري مع فرنسا في ظلّ هزيمة نابليون.ـ
وتمكّن منتجو البيرة أيضاً من فرض تعاريف مرتفعة على سلعٍ منافسة أخرى، كالرم (شراب مسكر). وربما تبدو المشروبات الكحولية كبضاعة رفاهية لشعوب القرن الحادي والعشرين، ولكنها كانت أساسية عند شعوب القرن التاسع عشر؛ نتيجة لشحّ الماء النقي.ـ
واستعرض ناي في كتابه أنه في حالة قياس عوائق التجارة بشكل صحيح – وهو مجموع إيرادات التعاريف كنسبة من القيمة الإجمالية للواردات – كانت فرنسا أقرب إلى التجارة الحرة من بريطانيا؛ بسبب تعاريف المشروبات الكحولية، وعلى عكس التصور السائد حول الموضوع.ـ
ولكن لا يزال هناك أساس لسمعة بريطانيا كرائدة في التجارة الحرة، فلقد ألغت التعاريف للسلع الصناعية في فترة الثورة الصناعية. ولم تشاهد تلك الإصلاحات اعتراضاً سياسياً ملحوظاً؛ لأنّ بريطانيا كانت مصدّرة لتلك السلع، ولم تهدّد واردات المنتجين المحلّيين.ـ
واليوم، في الفترة التي تسعى بريطانيا فيها إلى استرجاع سمعتها كقائد في التجارة الحرّة، يجب استيعاب حقيقة إصلاحات القرن التاسع عشر؛ لأنّ شيئين لم يتغيّرا منذ معركتي ترافلغار وواترلو. أولاً: لا يزال السياسيون يميلون نحو التصريح بشيء، بينما ينفّذون شيئاً آخر. وثانياً: تستمر اللوبيات الصغيرة في إقناع الحكومات بتنفيذ سياسات تخدم مصلحة اللوبي، على حساب المصلحة العامة.ـ
إذاً حينما تبدأ مي في إقرار سياسات داعمة للتجارة الحرّة، ينبغي على المواطنين البريطانيين قراءة بحوث ناي، ومن ثمّ عدم الاستعجال في الاقتناع بتصريحات رئيسة الوزراء، والتدقيق في تفاصيل تلك السياسات. فيستفيد المستهلكون- والاقتصاد عموماً- عند إلغاء التعاريف على الواردات، بينما إلغاء تعاريف الصادرات يعتبَر مجرّد تظاهرٍ بالإيمان بالتجارة الحرّة.ـ