جسدت النقاشات والحوارات التي دارت خلال منتدى “دراسات” السنوي الذي نظمه مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة يوم 8 يناير الجاري، بحضور نخبة مميزة من كبار المسؤولين والخبراء والمفكرين والكتاب في مملكة البحرين ومختلف دول العالم، حقيقة السياسات العدوانية الممنهجة التي يتبناها النظام في الدوحة، وتسببت حتى هذه اللحظة ليس فقط في تهديد أمن منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها الخليج العربي، وإنما في تعريض منجزات دول المنطقة بأسرها ومكتسبات شعوبها للخطر، والمساس بروابط تماسكهم وأواصر وحدتهم التاريخية.

وقد اكتسب منتدى “دراسات” الذي جاء تحت عنوان “قطر عراب الفوضى والأزمات في الشرق الأوسط” أهميته من عدة اعتبارات، فإضافة إلى توقيت انعقاده، حيث الظروف والأجواء التي تعصف بالمنطقة ككل، سيما بعد التطورات الأخيرة في إيران، التي تمثل حليفا للنظام في الدوحة وعونا له في تنفيذ أطماعه وأجندته، فإن المنتدى تطرق لجملة من القضايا والملفات المهمة التي يتعين على الرأي العام العالمي استيعابها، وتفرض على حكومات المنطقة والمجتمع الدولي التعاطي معها. والمتابع لأعمال وجلسات المنتدى يتوصل إلى أن هناك ثلاثة حقائق أساسية دارت حولها العديد من النقاشات والحوارات وخلصت إليها النتائج، التي أجمع عليها المشاركون، واتفقت بشأنها مواقفهم وآرائهم، الحقيقة الأولى: تتعلق بحجم العداء الذي يكنه النظام في قطر للبحرين، والذي ظهر جليا منذ عقود مضت، واستمر بشكل سافر حتى الآن دون مبرر سوى النيل من المملكة ومقومات قوتها واستقرارها. ولا يمكن وصف هذا العداء القطري للبحرين إلا باعتباره يعبر عن عقدة تاريخية وحضارية، ورغبة في إفشال الإصلاحات الشاملة بقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه خاصة الجانب السياسي. ورصدت مناقشات المنتدى نماذج كثيرة ومعبرة من هذه الممارسات العدائية التي ارتكبها النظام القطري بحق المملكة، وهي ممارسات يُندى لها الجبين بالفعل.

وبدأ عداء الدوحة واستمر بما زُعم أنه حقوق تاريخية في أراضي بحرينية، مع مواصلة تشويه للحقائق وتزوير الوثائق والمستندات التاريخية ذات العلاقة، وانتهى بالتورط الفعلي في دعم محاولات انقلابية فاشلة، والعبث بمفاصل الاستقرار المجتمعي، وتقديم الدعم المالي والإعلامي وحتى السياسي لعناصر وخلايا إرهابية.

الخطير في هذه الممارسات غير المسؤولة، أنه يرتبط بأمرين: فمن ناحية، توافقه وتزامنه بطريقة أو بأخرى مع أحد أكبر وأهم مصادر التهديد لأمن المنطقة ككل، واستقرار البحرين بالأساس، وهي الأطماع التوسعية الإيرانية. والمعروف أن إيران تسعى من خلال أذرعها وامتداداتها إلى إحداث القلاقل وبث بذور التوتر والفوضى إلى درجة شن عمليات إرهابية داخل المملكة، حيث ثبت بالدليل القاطع تورط طهران في العديد من تلك العمليات بغرض فرض النفوذ وتصدير الطائفية. الأمر الثاني، أن السياسات العدوانية القطرية الممنهجة لم تتوقف عند حد معين، أو دولة بعينها، أو تنتهي بانتهاء فترة أو مرحلة زمنية محددة، بل امتدت طوال أكثر من عقدين من الزمان، وتواصلت دون توقف، وما زالت مستمرة بتأثيراتها السلبية إلى الآن في الكثير من المواقع والملفات، وشملت بالإضافة للبحرين الكثير من دول المنطقة والعالم.

وكشفت هذه السياسات عن مستوى وجسامة الخطر الذي تمثله الدوحة لأمن المجتمع الدولي برمته واستقرار أركانه، ولعل ما يثبت هذا المعنى، وعبرت عنه نقاشات المنتدى، هو وجود دور للدوحة في كل الأزمات التي يشهدها الإقليم منذ عام 1995، وطبيعة أدواتها التي استخدمتها وجندتها لخدمة سياساتها، المالية والإعلامية والحقوقية، ولم تستهدف من ورائها سوى تحقيق مزيد من الأضرار في الأمن القومي العربي والخليجي وإحداث الثغرات به. الحقيقة الثانية التي جسدتها أعمال المنتدى تتعلق بالتيقن من إخفاق الدوحة وفشل نظامها في تنفيذ أجندته التخريبية ومشروعه التقسيمي، إذ لا يخفى أن الدور الذي مارسه هذا النظام في كل من البحرين ومصر وليبيا وتونس واليمن وغيرها، فضلا عن تمويلاته وتسهيلاته اللوجيستية والأمنية المقدمة لمن يحقق أطماعه وسياساته، لم يؤثر كثيرا، بفضل تحرك دول الاعتدال التي أعادت الكثير من الأمور إلى نصابها. كما أن هذا الدور القطري لم يثمر عن نجاحات جوهرية تذكر، بل زاد الوعي الشعبي العربي بمخاطره وأهدافه التدميرية، ولفت الانتباه إلى أهمية إعداد العدة للتصدي له ومواجهته. ومن بين أهم القرائن الإضافية على فشل قطر في تنفيذ أجندتها، انحسار أدوارها وأدواتها في بعض الأزمات نتيجة التحركات الرصينة التي قامت بها الدول الداعية لمكافحة الإرهاب منذ مايو 2017، واستمرت إلى الآن، والتي اضطرت الدوحة إلى التقوقع والانكماش على ذاتها بسبب الحرج الذي باتت تشعر به جراء سياساتها التدخلية، وممارساتها العدوانية بحق جيرانها. هذا بجانب مخاوف الدوحة المتزايدة من أن يسفر قطع العلاقات معها وفرض العزلة عليها عن تطورات داخلية لا تُحمد عقباها، خاصة مع إقتناع أطراف دولية بخطورة السياسات القطرية، فضلا عن الصعوبات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تمر بها الدوحة حاليا بعد مرور أكثر من 6 أشهر على قرار قطع العلاقات معها، حيث بدأت تلوح في الأفق مؤشرات تنبئ بحدوث تداعيات داخلية، وتأثير كبير لا يمكن تحمله لمزيد من الوقت.

الحقيقة الثالثة التي عبرت عنها أعمال منتدى “دراسات” تتعلق بالسبل المناسبة لمواجهة إصرار قطر على موقفها المتعنت، والرافض للتجاوب مع مطالب الدول الداعية لمكافحة الإرهاب، واستمرارها في غلق باب الحوار والتفاوض. في هذا الصدد. يقول د. الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة رئيس مجلس أمناء مركز “دراسات”: “نحن بالتأكيد أمام حالة فرز حقيقية لحماية الأمن القومي العربي ومكافحة الإرهاب. ورسالتنا واضحة بأن أمن المنطقة خط أحمر ولا يمكن السماح لقطر أو أي جهة أخرى العبث به. ومملكة البحرين دولة مؤسسات ولا تتنازل عن حقوقها السيادية، ولا يمكن النيل من قدراتنا وإرادتنا، كما أن عزيمتنا ليست موضع اختبار، ولاسبيل أمام الدوحة إلا تنفيذ التعهدات والالتزام بالبنود الثلاثة عشر بشكل فعلي وكامل”. لقد نجح منتدى “دراسات” في نسخته الأولى في فرض موقعه كملتقى جامع قادر على تحقيق وحدة الكلمة وتعزيز أمن واستقرار المنطقة، ومواجهة مشاريع الفوضى والتقسيم، من خلال شراكة فاعلة بين الفكر الاستراتيجي ودوائر صنع القرار، وهو ما أبرزته التغطيات الكثيفة لمختلف وسائل الإعلام المحلية والخليجية والعربية والدولية.

كما استطاع المنتدى أن يكون منصة متقدمة للحوار المفتوح المسؤول، وأن يستثمر ما تنعم به مملكة البحرين من حريات وانفتاح أتاحها التطور الديمقراطي الشامل والمتجدد، والذي تواكبه إنجازات كبرى ومكتسبات هائلة على مختلف المستويات. ونقطة أخرى، أثارها منتدى “دراسات” وهي أهمية دور مراكز الدراسات التي تعني بالشؤون الأمنية والاستراتيجية في سبيل دعم جهود دول الاعتدال، والإسهام في بناء نسق إقليمي مستقر ومتوازن. وهذا الجهد يتطلب تعزيز الشراكات بين مراكز الدراسات. وأخيرا، فقد كان البيان الختامي الصادر عن ختام أعمال المنتدى موفقا وشاملا ومعبرا عن حقيقة التهديدات القطرية لمملكة البحرين ودول الخليج والدول العربية والعالم، وقدم توصيات مهمة تؤكد أهمية دوره وتأثيره بعد أن وضع حرية الكلمة أولوية، وضمير الأمة ميثاقًا.