حوّل النفط الاقتصادات الخليجية إلى نمط فريد، تصعب مقارنته بالاقتصادات التقليدية الأخرى، لأن النفط ساهم في خلق قوات عاملة حيث يمثل المواطنون أقليّة في وطنهم، على عكس ما هو موجود في الاقتصادات الأخرى. ومن خصائص الاقتصادات الخليجية ضآلة نسبة المواطنين الذين يمارسون الأعمال اليدويّة في المصانع، على رغم المساهمة الاقتصادية الكبيرة للقطاع الصناعي، الذي يمثّل ما يزيد على 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أساساً بسبب قطاع البتروكيماويات. ويعود عزوف المواطنين عن العمل اليدوي لأسباب مختلفة، منها الثقافة البدوية.
وفي الفترة ما قبل أزمة أسعار النفط الحالية، كان يتوافر للمواطن الخليجي الكثير من فرص العمل البديلة، لا سيما المهن الإدارية في القطاع العام، ما سمح له بتفادي الوظائف الصناعية التي ربما لا يرغب فيها.
ولكن الأوضاع الاقتصادية الراهنة تفرض على المجتمعات الخليجية الحاجة لإعادة هيكلة اقتصاداتها، وتحديداً لخلق فرص عمل جديدة خارج القطاع العام. وفي رؤيتها الاقتصادية، تسعى الحكومات الخليجية إلى تعزيز قطاعاتها الصناعية غير النفطية، إذ يجب المرور بمرحلة تصنيع مصغّرة، مرّت فيها تقريباً كل الدول الثرية، كأميركا، ومنبع الثورة الصناعية، المملكة المتحدة.
ومن المهن الأخرى التي تهرّب منها المواطنون الخليجيون نسبياً – نتيجة لوجود وظائف حكومية مريحة مادياً ونفسياً – هي ريادة الأعمال، لأنّ الإنسان عادة يخشى المخاطرة التي لا يمكن تفاديها عند إطلاق مشروع مبتكر، لا سيما من لا يتمتعون برأس مال ملحوظ يحميهم من تقلّبات الأسواق. وفي الكثير من الحالات، يعمل الخليجي كرائد أعمال في وظيفة ثانوية، تكمّل دخله المضمون من عمله في القطاع العام. وبما أن الرؤى الاقتصادية الخليجية تنصّ على الرغبة في التحوّل إلى اقتصادات المعرفة، وتعزيز دور الابتكار في الأنشطة الاقتصادية، يجب على الدول الخليجية أن تدفع مواطنيها للتوجّه نحو ريادة الأعمال. ما هي الاعتبارات المهمّة عند النظر في التصنيع الناشئ، وريادة الأعمال؟
نشر أخيراً الباحثان كريستوفر بلاتمان (جامعة شيكاغو) وستيفان ديركون (جامعة أكسفورد) ورقة عمل بعنوان «الخيارات المهنية في المجتمعات الحديثة التصنيع: أدلّة تجريبية حول التداعيات المالية والصحية للعمل الصناعي وريادة الأعمال»، تحدّثا فيها عن تجربة أجراها الباحثان في أثيوبيا، بالتعاون مع خمس شركات صناعية، للتعمّق بخصوص الخيارات المهنية لدى المواطنين العاديين.
فانطلق البحث لذكر الإيجابيات التقليدية للعمل اليدوي في القطاع الصناعي، تحديداً ثبوت الوظيفة، والفرصة لاكتساب مهارات وخبرة مفيدة، وأحياناً راتب أفضل. وذكر المؤلفان أيضاً السلبيات، ومنها بعض الأخطار الصحية، فضلاً عن الحاجة للانسحاب من الدراسة لممارسة مثل هذه المهن، ما قد يخفّض مدخول الموظف على المدى الطويل. بينما مرونة ساعات العمل تعتبَر من إيجابيات ريادة الأعمال، التي تسهّل عملية الدرس في شكل موازٍ.
وفي التجربة، تعامل الباحثان مع ألف شخص عاطل من العمل تقدّموا لإحدى الشركات الصناعية الخمس المتعاونة. وفي ثلث الحالات، التي تمّ تحديدها عبر نهج «التحكّم العشوائي»، عُرضت وظيفة في المصنع للمتقدّم، بينما في ثلث آخر، عُرضت على المتقدّم فرصة المشاركة في برنامج تدريبي لروّاد الأعمال الجدد، كما استلموا منحة مالية ملحوظة لإنشاء مشروع أعمال. أمّا الثلث الأخير منهم فلم تعرَض عليهم فرصة.
وكان غرض المساعدات المقدمَّة لروّاد الأعمال تسهيل عملية إنشاء المشاريع. ومن هذا المنطلق، أجريت أخيراً بحوث تشير إلى وجود الكثير من الشباب في الدول النامية قادرين على تطوير وإدارة مشروع تجاري مصغّر يعيّشهم، غير أنّهم يعانون من نقص في رأس المال، كما أنهم في حاجة الى توجيهات أولية حول الخطوات اللازمة.
وكان المؤلّفان يتوقّعان أن يفضّل الشباب أساساً العمل في المصنع، للأسباب المذكورة أعلاه، وأن تمثّل ريادة الأعمال مجرّد بديلٍ موقّتٍ خلال الفترات التي يجد فيها الشاب نفسه عاطلاً من العمل. ولكن العكس هو ما حدث، إذ استفاد الشباب من فرصة ريادة الأعمال، وحقّقوا من خلالها مردوداً مالياً أفضل من الرواتب المعروضة في المصانع. وإضافة إلى ذلك، تميّز روّاد الأعمال بصحة أفضل من عمّال المصانع، الذين كانوا يعانون من مختلف الآلام الجسدية، نتيجة العمل اليدوي القاسي، ما دفع الكثير منهم إلى الاستقالة من العمل في المصانع بعد زمن قصير، واستخدام الوظائف الصناعية أصلاً، كمصدر رزق عندما لا تتاح بدائل أخرى، أو حينما يمرّ روّاد الأعمال بفترة أرباح متدنية بسبب تقلبات السوق.
وفيما يخصّ الاقتصادات الخليجية، تشير التجربة إلى أهمية معالجة القيود التي تمنع الكثير من الشباب من خلق مشروع متواضع. لذا نجد أن هناك دوراً محورياً لأنشطة خاصة تكمل جهود الحكومات، كبرنامج «فرصة» لدى جمعية الريادة الشبابية في البحرين، الذي يعالج النقص المعلوماتي لدى الشباب في مجال ريادة الأعمال.
ويؤكّد البحث أيضاً ضرورة مراعاة الاعتبارات الصحية الطويلة المدى عند تقويم القطاعات الصناعية التي تنظر فيها الحكومات الخليجية لمستقبل اقتصاداتها، لا بناء القرارات على الاعتبارات الاقتصادية المباشرة القصيرة المدى فقط.