لطالما اعتمدت دول الخليج على أنظمة دفاع جوي معقدة ومكلفة. لكن حرب الطائرات المسيّرة – الرخيصة، الدقيقة، والقابلة للاستهلاك – تفرض إعادة تفكير جذرية، وقد تستفيد المنطقة من تغيير في الحسابات. باختصار، يمكنها أن تردع من خلال الهجوم، وليس الدفاع فقط.
تمتلك جميع الجيوش موارد محدودة يجب توزيعها بين وسائل الدفاع (الاستثمارات الدفاعية) والقدرات الانتقامية (الردع الهجومي). وتُعد نظرية الألعاب إطارًا تحليليًا لهذه الموازنات، إذ يتعيّن على الاستراتيجيين العسكريين تحليل الخيارات المحتملة لخصومهم كأساس لاتخاذ قراراتهم الخاصة.
عند مواجهة هجوم من العدو، فإن إحدى المزايا الرئيسية للإجراءات الدفاعية مقارنة بالرد الانتقامي، هي أنها تتيح للدولة المدافعة الحفاظ على التفوق الأخلاقي. فقد يؤدي الرد إلى تداعيات دبلوماسية كبيرة، خاصة إذا اعتبرته الدول الأخرى تصعيدًا غير ضروري أو عدوانًا مفرطًا، كما أنه قد يجر إلى حرب شاملة ضد الهدف. وعلى النقيض من ذلك، فإن المجتمع الدولي لا يعترض على قيام دولة بتحييد تهديد وشيك قادم نحو أراضيها.
فعلى سبيل المثال، خلال الحرب الباردة، كانت القاذفات السوفييتية تختبر بشكل منتظم المجال الجوي الأمريكي، وكانت الولايات المتحدة ترد بإرسال طائرات اعتراضية لمنع القاذفات من انتهاك سيادتها. تُعد الفعالية النسبية أيضًا عاملًا مهمًا يجب أخذه في الاعتبار: إذا كانت الهجمات المحتملة رخيصة وسهلة التصدي، في حين أن الرد الانتقامي مكلف وصعب، فستُفضل الدول الخيار الأول.
خلال القرن العشرين، كان استخدام طائرة مقاتلة حديثة لتنفيذ طلعة جوية في أراضي العدو أمرًا شديد الخطورة. فقد كان سعر الطائرة وتدريب الطيار يتجاوز 30 مليون دولار، بينما كانت احتمالات النجاح منخفضة نظرًا لقوة أنظمة الدفاع الجوي السائدة آنذاك. وكانت الصواريخ الدقيقة حكرًا على الجيوش المتقدمة، أما الصواريخ منخفضة التكلفة فكانت تفتقر إلى الدقة الكافية لتكون بديلًا عمليًا للطائرات المقاتلة.
ونتيجة لذلك، كانت الكفة الاقتصادية في أي مواجهة عسكرية تميل لصالح المدافع، مما جعل انتظار العدو حتى ينهك استراتيجية قابلة للتطبيق.
في ظل هذه الظروف العامة، طوّرت دول الشرق الأوسط عقائدها الدفاعية، مما أدى إلى تركيز كبير على الاستثمار في أنظمة الدفاع الجوي، والتي كانت تُزوَّد بها عادة من قبل الولايات المتحدة. ونُظمت الجيوش الإقليمية أساسًا لاعتراض الطائرات المعادية والصواريخ الباليستية، مع اهتمام أقل نسبيًا بالرد الانتقامي على المعتدين.
لكن ظهور الطائرات المسيّرة (الدرونز) قلب هذه المعادلة رأسًا على عقب. فالكثير من التدابير الدفاعية التقليدية أصبحت شبه غير فعالة في مواجهة الارتفاعات المنخفضة، وتكتيكات السرب، أو تقنيات التخفي التي تستخدمها الطائرات المسيّرة الحديثة.
أصبحت هذه المركبات الجوية غير المأهولة اليوم قادرة على تنفيذ ضربات أعلى دقة من الطائرات المقاتلة في القرن العشرين، لكن بتكلفة أقل بكثير، وبدون الحاجة للقلق من فقدان طيار مُدرّب تدريبًا عاليًا أو أسره.
لا تزال وسائل التصدي لهذه الطائرات ممكنة، لكنها في كثير من الأحيان أكثر تكلفة مقارنةً بسعر الدرونز الهجومية الرخيصة.
في هذا الواقع الجديد، أصبحت الكفة الاقتصادية تميل لصالح المُهاجم.
والنتيجة هي حالة من اللاتوازن المقلق: إذ يمكن للمهاجمين إطلاق موجات متتالية من الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة، مما يُسبب خسائر مادية وبشرية، إلى جانب التكاليف الدفاعية المرتفعة لاعتراض هذه الهجمات. وبالنسبة لحكومات المنطقة، فإن هذا يعني أن الخيار الأمثل الآن هو إعادة توجيه الموارد من الدفاع إلى الهجوم، مع التركيز بشكل أكبر على الردع من خلال القدرة على الانتقام.
فإذا أصبح بمقدور العدو مهاجمة البنية التحتية الحيوية لدولة ما — مثل محطة كهرباء أو محطة تحلية — بسهولة أكبر وتكلفة أقل بكثير مقارنة بما كان عليه الحال قبل عشرين عامًا، فإن وسيلة الردع الحاسمة اليوم هي امتلاك القدرة على إلحاق الأذى ذاته بالمهاجم. وإلا، فلن يكون لدى المهاجم حافز قوي للتوقف.
ومع تآكل النظام الدولي القائم على القواعد، وتراجع فاعلية القانون الدولي كقيد، ارتفع عتبة الإدانة الدولية. ففي السابق، كان انتهاك سيادة دولة أخرى يُعرّض المعتدي لعزلة دولية شديدة.أما في عام 2025، فيبدو النظام العالمي بشكل مقلق وكأنه أقرب إلى “حالة الطبيعة” لدى هوبز، حيث تغيب الضوابط، ويُصبح الردع بالقدرة هو الخيار العقلاني.
وبالطبع، مع استمرار الطائرات المسيّرة في إحداث دمار كبير، سيبذل المبتكرون جهودًا متزايدة لتطوير وسائل دفاعية منخفضة التكلفة، وقد يتحوّل التوازن لاحقًا مرة أخرى لصالح الدفاع. لكن في الوقت الحالي، من المرجح أن تتبع دول الخليج منطق نظرية الألعاب، وتُركّز استثماراتها على تطوير قدراتها الهجومية بالطائرات المسيّرة.
المصدر: أخبار الخليج
الدكتور عمر العبيدلي، مدير إدارة الدراسات والبحوث