نتائج الانتخابات الأمريكية: مفاجأة أم عدم دراية بتحولات الداخل الأمريكي؟

لا أنكر أن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة كانت مفاجأة لي كغيري من ملايين البشر حول العالم، ولم يكن ذلك لشخص ترامب ذاته، وإنما لسببين، الأول: هو الانحياز الهائل من جانب وسائل الإعلام، سواء الأمريكية أو العربية للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون إلى الحد الذي رسخ قناعة لدى الجميع بأنها الرئيس القادم للولايات المتحدة بلا منافس، أما السبب الثاني للمفاجأة فهو أن العديد من الكتاب والمحللين، وخاصة في العالم العربي دائماً ما تكون لديهم قناعة مسبقة بشأن حزب أو شخص ما، بناءً على تاريخ ذلك الشخص ودرايتهم به، متناسين أنه كان لكل رئيس أمريكي سياسة مختلفة تماماً عن سابقيه، بل إن من أمضى فترتين في الحكم قد تباينت سياسته خلالهما وفقاً لما اقتضته المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، وبنظرة موضوعية إلى تلك النتائج نجد أن هذا الفوز يعد أمراً طبيعياً، وكان يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار من جانب الخبراء والباحثين والمحللين لعدة أسباب، أولها: إن العملية الانتخابية برمتها تعد لعبة تحتاج إلى مهارة عالية، وبغض النظر عن كونه المرشح الذي استقر عليه الحزب الجمهوري، فالأهم هو أن ترامب -أو بالأحرى منظمو حملته الانتخابية- قد عرفوا إلى من يوجه الخطاب الدعائي وما هو مضمون ذلك الخطاب؟ وهو الأمر الذي استطاع ترامب توظيفه بإتقان من خلال تأكيد أهمية «تغيير النخبة الحاكمة برمتها»، موجهاً حديثة إلى «الجماهير» وليس «النخبة»، وثانيها: مهارة توظيف مخاوف الشعب الأمريكي ضمن الحملة الانتخابية، ففي أحدث استطلاع في الولايات المتحدة للرأي تزامناً مع الحملة الانتخابية أفادت العينة المستجوبة بأن مشكلتي الفساد والإرهاب هما أكثر مخاوف المواطنين خلال عام 2016 على الرغم من أن الأراضي الأمريكية تظل بعيدة عن أنشطة تنظيم داعش، مقارنة بالدول الأوروبية، ومن ثم فإنّ تصريحات ترامب المثيرة للجدل حول المهاجرين غير الشرعيين قد لامست هواجس غالبية الشعب الأمريكي في ظل الآلة الإعلامية التي استطاعت الربط بين التهديدات الإرهابية التي تواجه الولايات المتحدة والمهاجرين، وثالثها: على الرغم من أن ترامب لم يتقلد منصباً رسمياً في الولايات المتحدة من قبل فإنّ ذلك كان يجب ألا يكون سبباً في استبعاد احتمال فوزه لسبب بسيط وهو امتلاكه العديد من الشركات العقارية ودرايته بأبعاد المشكلة الاقتصادية، ومن ثم إطلاق الوعود لحلها، وهو ما لاقى صدى كبيراً لدى قطاعات من الشعب الأمريكي الذي بدأ ينتقد علناً ومنذ عدة سنوات السياسات الاقتصادية للنخب الحاكمة طالما أنها عجزت عن حل المعضلات الاقتصادية، ورابعها: أنه من الخطأ اختزال العملية السياسية في المرشح والناخب من دون الأخذ بعين الاعتبار دور جماعات الضغط، التي تعد جزءًا من آلية عمل النظام السياسي ومن ثم تأثيرها على مجريات الأحداث في الداخل الأمريكي.

وتؤكد تلك الأسباب حقيقة مفادها أنه من الخطأ متابعة تطورات النظام السياسي الأمريكي عبر وسائل الإعلام والتي تسيطر عليها جماعات الضغط بشكل كبير، إذ لاتزال هناك حاجة إلى دراسة التغير الذي طرأ على توجهات الرأي العام الأمريكي ذاته خلال السنوات القليلة الماضية وهو ليس سمة لصيقة بالأمريكيين فحسب وإنما جزء من سيادة سيطرة تيار عالمي يعمل على إذكاء روح الهوية والانكفاء على الذات مجدداً، إذ لم يكن تصويت البريطانيين بأغلبية بسيطة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوى مؤشر واضح لهذا التيار.

وقد يتساءل البعض: هل تعد تلك النتيجة أفضل للعالم العربي ودول الخليج؟ والواقع أن الإجابة عن ذلك التساؤل لا تخلو من تعقيد بقدر تعقيد عملية صنع القرار في النظام السياسي الأمريكي ذاته، ومن ثم يتعين الوضع اعتبار عدة نقاط، الأولى: إن مرحلة الدعاية الانتخابية تختلف بشكل كبير عن ممارسة السياسة الواقعية، صحيح أن الدعاية تعكس ملامح برنامج المرشح الرئاسي ولكنها تكون أفكارا يغلب عليها الطابع الحماسي، ولعل هذا ما يفسر تجنب ترامب الحديث عن قضايا السياسة الخارجية في خطاب النصر إلا ما قاله بشكل عام من أنه سوف «يقيم علاقات جيدة مع دول العالم» والثانية: مع التسليم بوجود تحديات عديدة تواجه الولايات المتحدة على صعيد دورها تجاه مناطق النزاع الإقليمي فإنّ مدى انحسارها عن تلك النزاعات أو المزيد من تدخلها لن يكون قراراً سهلاً، حيث سوف يرتبط باعتبارات عديدة ليس أقلها الدور الروسي ومسؤولية الولايات المتحدة عن أمن الحلفاء الأوروبيين، سواء داخل الناتو أو ضمن علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، والثالثة: تطور الأزمات الإقليمية ذاتها على نحو قد تراه الولايات المتحدة تهديداً خطيراً لمصالحها، حيث إن الأمن الإقليمي أضحى هو من يشكل الأمن العالمي ابتداءً بحرب تحرير الكويت عام 1991 ومروراً بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وانتهاء بالأزمة السورية التي أوجدت واقعاً إقليمياً ودولياً جديداً.

ويعني ما سبق أن القراءة الصحيحة لنتائج الانتخابات الأمريكية يتعين أن توضع ضمن ثلاث دوائر قد تبدو منفصلة، ولكنها متداخلة إلى حد كبير، وهي التحديات الداخلية في الولايات المتحدة، وتطورات ميزان القوى العالمي والمسارات المستقبلية للأزمات الإقليمية، ومن ثم فإنّ السياسة الأمريكية الجديدة سوف تكون توليفة من بين تلك الدوائر الثلاث بما يحقق البرنامج الانتخابي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب من ناحية ويحفظ للولايات المتحدة تواجدها كقوة مؤثرة في النظام العالمي الراهن من ناحية أخرى.

وأتصور أن هناك أسسا مهمة يمكن البناء عليها بين الدول الخليجية والعربية والإدارة الأمريكية الجديدة، أولها: قناعات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأهمية الحفاظ على مفهوم الدولة الوطنية الموحدة، وهو أمر مهم كركيزة لبناء الأمن الإقليمي والأمن العالمي على حد سواء، وثانيها: الصراحة والوضوح بشأن العديد من الملفات الشائكة التي لم تعد تجدي الدبلوماسية نفعاً إزاءها، وثالثها: المصالح والتحديات المشتركة بين الدول الخليجية والعربية والولايات المتحدة، ليس أقلها ظاهرة الإرهاب الذي يحتاج إلى تعاون وثيق للتصدي له، وخاصة أنه لم يعد مرتبطاً ببقعة جغرافية محددة، بل أضحى ظاهرة عابرة للحدود.

Related posts