لماذا تحتاج دول مجلس التعاون الخليجي إلى تبني التجريب في السياسة الاقتصادية

منذ بدايات الحضارة، إلى منتصف القرن العشرين، كان علم الاقتصاد مبنياً على التحليل النصي والاستنتاجي، إذ كانت البحوث الرئيسية أطروحات طويلة ودسمة، دون أي تحليل إحصائي. لقد استندت توصيات الاقتصاديين لأصحاب القرار على مبادئ عامة، فعلى سبيل المثال اعترض ديفد ريكاردو على قوانين الذُرة الإنجليزية التي كانت تخالف مبدأ التجارة الحرة؛ حيث أن توصيات الاقتصاديين لم تحتوِ على تحليلات كمية دقيقة، على عكس ما يقدمه باحث طبي ما لوزير الصحة.ـ

وخلال النصف الثاني للقرن العشرين، أدّى تطوران إلى تحوّل في مجال الاقتصاد.ـ

أولاً: بدأت الحكومات الغربية تجمع عدة إحصائيات بشكل منهجي، ومن ثمّ توافرت للاقتصاديين كمية كبيرة من البيانات رفيعة الجودة قابلة للتحليل.ـ

ثانياً: قدّم اختراع الحاسب الآلي للباحثين الأدوات المطلوبة للتحليل الإحصائي المتقدم.ـ

إذاً، بينما كان كبير الاقتصاديين في القرن التاسع عشر يشبه الفيلسوف العبقري جون إستيوارت ميل، أصبح كبير الاقتصاديين في القرن العشرين يشبه جيمز هيكمان، الذي فاز بجائزة نوبل، فقد درس انعكاسات اكتساب المؤهلات العلمية على رواتب العمالة لمدة عقود. ولقد أصبح الاقتصاديون اليوم يدعمون صنع القرار من خلال توصيات دقيقة، مبنية على بيانات رصينة.ـ

ويمر مجال الاقتصاد اليوم بتغيير جديد، وهو انتشار استخدام التجارب العلمية. فعلى الرغم من فعالية الإحصائيات غير التجريبية، تعاني تلك البيانات من ثغرة محورية: حينما يدرس الباحثون ظاهرة ما، يصعب التمييز بين الأسباب المختلفة، فضلاً عن الانعكاسات.ـ

ولاستيعاب طبيعة هذه الثغرة، فلننظر في قانون «لا طفلاً مهمولاً» الذي أقره جيورج بوش عام 2001؛ فقد فرضت السياسة اختبارات موحّدة على كل طلبة المدارس الثانوية، كما حددت خطة تعزيز الأداء للمدارس الفاشلة. وكان أصحاب القرار والاقتصاديون حرصين على تقويم آثار السياسة على المخرجات التعليمية، ولكن كيف كان يمكن التمييز بين دور يساسة «لا طفلاً مهمولاً» ودور التطورات الأخرى التي جرت في مطلع الألفية الجديدة؟ـ

وعلى سبيل المثال، مرّ الاقتصاد الأمريكي بأزمة مالية عام 2001؛ نتيجة لانفجار فقاعة الـ «دوت-كوم»؛ وجرت عمليات 9\11 الإرهابية؛ وغزت أمريكا كلاً من أفغانستان والعراق؛ وكان هناك العديد من التطورات الأخرى، التي تجعل عملية التمييز بين دور التطورات المخلتفة أمراً صعباً.ـ

لقد طور الطبيب الإسكتلندي جيمز ليند حلاً لهذه المشكلة في القرن الثامن عشر من خلال عمله مع البحرية الملكية، حيث كان البحارون يصابون بمرض «السكرفي» (هو مرض مؤذٍ للغاية)، وخمّن ليند أن عصير الليمون قد يعالج المرض. وإن شرّب ليند كل المرضى عصير الليمون، وشهد تحسناً في صحتهم، فلم يكن قادراً على التمييز بين دور عصير الليمون ودور العوامل الأخرى التي تغيرت في نفس الوقت، كالطقس، والضغط الهوائي، الخ. وتفادياً لهذه المشكلة، حدّد ليند عيّنة فرعية عشوائياً (العيّنة الأساسية)، ولم يشرِّب أعضاءها عصير الليمون. إذاً، في ظل عدم تحسن صحة أعضاء العيّنة الأساسية، تمكّن ليند من الاستنتاج أن سبب تحسن صحة المرضى الذين شربوا عصير الليمون كان العصير، وليس العوامل الأخرى.ـ

أصبح نهج تجارب «التحكم العشوائي» النهج الرئيسي في العلوم الطبيعية، واليوم، يدأ يسيطر على مجال الاقتصاد، ومكّن ذلك الاقتصاديين على بناء توصياتهم على قواعد رصينة. وعلى سبيل المثال، أجرى كل من جرير جوزنيل (كلية لندن للاقتصاد) وجون ليست وروبرت متكالف (جامعة تشيكاغو) بحثاً حول سبل ترشيد الكربون؛ واستعرضوا في البحث كيف يمكن استخدام مكافآت مالية لتحفيز الطيارين المدنيين على ترشيد الوقود، بأكثر فعالية، وبكلفة أقل، من معظم السياسات البيئية الحكومية. وفي بحث حول استهلاك الماء، استعرض الاقتصاديان بول فرارو ومايك برايس (جامعة ولاية جيورجيا) أن تزويد المستهلكين بمعلومات حول استهلاكهم للماء مقارنة باستهلاك الجيران يؤدي إلى ترشيد ملحوظ في استهلاك الماء. لقد أجرى رولاند فراير (جامعة هارفرد) عدة تجارب حول استخدام الحوافز المالية على طلبة المدارس الثانوية، واكتشف أن فعالية الحوافز المربوطة بأدوات التعليم (قراءة الكتب، إكمال الواجبات) أعلى من فعالية الحوافز المربوطة بالمخرجات (نتائج الاختبارات الموحدة).ـ

ولا يمكن التوصل إلى مثل هذه الاستنتاجات دون استخدام نهج تجارب التحكم العشوائي. وفي شهر يوليو لعام 2016، عقدت جامعة تشيكاغو ورشة عمل (المعهد الصيفي للتجارب الميدانية) شارك فيها باحثون ذوو خلفية في التجارب العلمية، وممثلو حكومات، وشركات، ومنظمات غير ربحية، يسعون لاستخدام التجارب العلمية في أعمالهم. وكان هدف الورشة إنشاء شراكات بين المجموعتين من المشاركين، لتعزيز جودة القرارات الذي يتخذها أصحاب القرار في جميع القطاعات. لقد ساهمتُ بمحاضرة حول نظرية المعرفة المتقدمة، تساعد الباحثين على تصميم تجاربهم بشكل فعّال.ـ

وبما أن الإمارات والدول الخليجية الأخرى تعتبَر في بداية تنفيذ خطط الإصلاح الاقتصادي، فقد تستفيد من هذه التطورات الفكرية. أما أبوظبي فقد تعاونت مؤخراً مع ياو نياركو من جامعة نيو يورك في أبوظبي وزملائه لإجراء تجربة غير رسمية حول ضوابط العمالة الوافدة. وحقاً فإن الإمارات تستحق مدحاً لتصميمها على اتخاذ قرارات بناءً على بحوث متقدمة، فلا بد أن الخطوة المستقبلية تتموحر في استخدام نهج تجارب التحكم العشوائي.ـ

لقد أنشأت الحكومات الغربية، منها أمريكا والمملكة المتحدة، وحدات مكرّسة لتشجيع أصحاب القرار على استخدام التجارب العلمية لتقويم السياسات، ولتحليل البيانات الصادرة بشكل رصين. وفي ظل ضآلة كلفة إجراء التجارب، والمكتسبات الكبيرة الكامنة من ناحية اتخاذ القرارات بشكل فعّال، ينبغي على دول مجلس التعاون أن تنظر في تبني هذا النهج.ـ

ولربما تتصور دول مجلس التعاون أنها متخلفة في مجال الإنجازات البحثية المتقدمة مقارنة بالدول الأخرى، ولكن عليها أن تتذكر إنجازات علماء الشرق الأوسط على مدى آخر 1500 سنة، حيث كانت هناك مساهمات علمية مهمة لعلماء مثل ابن النفيس (1213-1288)، كما أنهم ساهموا في استعدادات الحضارة الأوروبية لعصر النهضة في القرن الخامس عشر.ـ

وعلق الفيزيائي الدينماركي نيلس بوهر أن الخبير هو: “… شخص قد نفذ كل الأخطاء القابلة للتنفيذ في مجال جدٌّ صغير”. وفيما يخص المجتمعات الخليجية، يشكّل كل من تبني نهج التجارب العلمية، وتحليل البيانات بشكل رصين، أسرع وسيلة للتنفيذ الأخطاء واكتساب الخبرة التي ذكرها بوهر. ولقد فاز بجائزة نوبل للفيزية عام 1922 – ولربما يقوم مواطن خليجي بنفس الشيء في عام 2022.ـ

Related posts