تبحث حكومات دول مجلس التعاون منذ زمن طويل عن أفضل سبل لتنويع اقتصاداتها، وفي ظل هبوط سعر النفط، تسارعت عملية دراسة الخيارات المتاحة. وأعلن مؤخراً كل من السعودية والإمارات عن إطلاق صناديق ضخمة تهدف إلى تحويل الاقتصادين إلى نمط اقتصاد المعرفة، استعانة بآراء كبار الاستشاريين الأجانب، وخبرات اقتصادات حققت إنجازات ملحوظة في تنويع أنشطتها، كماليزيا والمكسيك.
وبناءً على توصيات صندوق النقد الدولي، منها الدراسات الرصينة التي أجراها الاقتصاديان د. رضا شريف ود. فؤاد حسنوف، ترتكز خطة التنمية على تعزيز الصادرات السلعية، خصوصاً في القطاعات التي تتطلب تطوير منتجات جديدة بشكل مستدام، من خلال ابتكارات تكنولوجية، قائمة على معرفة تراكمية. ويعود ذلك بالأساس إلى الانعكاسات الإيجابية لمثل هذه الأنشطة الاقتصادية على القطاعات الأخرى، حيث أنها تساهم في خلق قوة عاملة متطورة المهارات، ومرنة، مما يسمح لها أن تلبي احتياجات الأسواق العالمية، ومن ثم تمويل الواردات العدة التي تحتاجها دول مجلس التعاون نتيجة لبيئتها الصحراوية الصعبة. مثلاً ينبغي استهداف الصناعات المتقدمة، كالطاقة المتجددة، وذلك لأنها تتصف بديناميكية، وتؤدي إلى فرص عمل مرغوب فيها.
ومع رغم صواب هذا التفكير الاستراتيجي، لا حاجة لتبني هذه الرؤية بشكل حصري، لاسيما إن أوجدت وسائل أخرى لتنويع الاقتصاد متواضعة الكلفة، تقوم على الاستفادة من مهارات متوفرة غير مفعّلة، بدلاً عن بناء مهارات متقدمة من الصفر.
في عام 2013، أصدرت إدارة شؤون البيئة والمواد الغذائية والأرياف لدى المملكة المتحدة بياناً يصف حملة «الطعام رائع»، التي تهدف إلى تعزيز الصادرات البريطانية في مجال المواد الغذائية. وصرّح وزير البيئة، أوين باترسون، أن “هناك فرص متعددة متاحة لشركات المواد الغذائية البريطانية للتصدير لكل أنحاء العالم، وأنا مصمم على مساعدة شركاتنا على اغتنام تلك الفرص”.
وقد تستفيد دول مجلس التعاون من إطلاق حملة شبيهة، حيث أن هناك ظاهرة غريبة في الخليج العربي: يتذوق المواطن الخليجي الطعام الشعبي التقليدي، مثل الكبسة والمشخول والرانكينة، كما أنه يستمتع كثير من الأجانب بهذه الأطباق الشهية حينما يزورون الخليج، ولكن نادراً ما نجد مطاعم خليجية في عواصم العالم، أو بهارات خليجية في بقالات خارج دول مجلس التعاون، أو برامج طبخ خليجي مذاعة في قنوات الطبخ الغربية. وهذا أمر مؤسف لأن الشعوب الخليجية تتميز بمستوى جداً عالي في الضيافة والكرم، لا يظهر إلّا للزوار في الوقت الراهن، ولا يعلم به غير الزوار الذين يشكلون غالبية سكان العالم، لأن الخليجيين لا يصدرون ضيافتهم.
وطبعاً ليس من المطروح أن تبني دول مجلس التعاون اقتصادها على تصدير مكابيس، ولكن يتصف هذا النشاط ببعض الميزات المثيرة للانتباه. أولاً: على عكس المشاريع الطموحة ذات اقتصاد المعرفة، تصدير المواد الغذائية عبر المطاعم، والبقالات، وغيرها، لا يستدعي رأسمالاً كبيراً، أو تقنيات حديثة تتطلب خبراء أجانب ودراسات مكثفة، فالعناصر الأساسية موجودة وجاهزة للعمل.
ثانياً: بعض فرص العمل المتعلقة بهذا القطاع مناسبة جداً للثقافة الخليجية الحديثة، حيث أن يمكن للطاهي العمل في المنزل، وبدوام مرن؛ ويمكن أيضاً اكتساب المهارات التجارية عن بعد عبر برامج إدارة الأعمال التعليمية بالانتساب، التي أصبحت شائعة ومحدودة الكلفة.
وهناك ميزة إضافية ذات قيمة رفيعة في الوقت الراهن، وهي أن تصدير المواد الغذائية عن طريق المطاعم وغيرها قد يعزز في سمعة دول مجلس التعاون، لأنها تخلق صلة وأُلفة بين المواطن الخليجي وغير الخليجي. فأصبحت جميع شعوب العالم ترحب بالجاليات الهندية، والصينية، واللبنانية، والإطالية، واليابانية؛ نتيجة للمأكولات الشهية التي تنشرها تلك الجاليات في الأحياء المستضيفة، عن طريق مطاعمها وبقالاتها.
فللأسف الشديد، أصبح غير الخليجي، خصوصاً غير العربي، يعتبر الخليجي شخصاً غير منتج، لا يساهم في الحضارة الحديثة إلا عن طريق النفط، ولا دوراً له في الفنون والثقافة العالمية. وتعكس هذه الظاهرة جزئياً قصوراً من قبل المواطن الخليجي، الذي لم يبذل جهوداً كافية لاستعراض مساهماته الثقافية الحقيقية أمام سكان العالم. وأشار بيان وزير البيئة البريطاني إلى دور تصدير المواد الغذائية في خلق طلب للصادرات البريطانية الأخرى، ولتعزيز السمعة الكلية لدى المملكة المتحدة، مما يخدم مصالحها في كل المجالات. وتستغني الدول الخليجية حالياً عن مثل هذه الفوائد.
وإن اقتنع المواطن الخليجي بفائدة تنمية تصديره للمواد الغذائية الشعبية، كيف يمكن الاستفادة من تجربة بريطانيا؟ تشتمل خطة المملكة المتحدة على العناصر التالية، التي ينبغي تبنيها مباشرة.
أولاً: إنشاء فريق عمل حكومي وخاص مشترك لدعم الصادرات الغذائية ولتحديد الأولويات. ثانياً: خلق هوية خليجية موحدة لتعزيز بروز المنتجات الغذائية الخليجية في الفعاليات والمعارض العالمية. ثالثاً: حملات ترويجية تركز على نقاط القوة لدى الإنتاج الغذائي الخليجي، وعلى أفضل فرص متاحة لها. رابعاً: العمل على التخلص من الحواجز التجارية التي تعيق الصادرات الخليجية.
وهناك ميزة إضافية لمثل هذا المشروع تتعلق بالوحدة والهوية الخليجية. الأطباق الخليجية متجانسة بشكل عام، فلا اختلافاً ملحوظاً بين الكبسة البحرينية والكويتية، والضيافة القطرية والإماراتية، مما يخلق فرصة لإنشاء مشروع تجاري فعلاً خليجي، قد يساهم فيه اتحاد غرف التجارة الخليجية، والأمانة العامة لدول مجلس التعاون، ومختلف المؤسسات الأخرى. فلا توجد حالياً منتجات “خليجية” في الأسواق العالمية، ويمكن استخدام المواد الغذائية كمنطلق لتوحيد الجهود التجارية الخليجية.
ختاماً، نتمنى أن مستقبل دول مجلس التعاون فعلاً يقوم على اقتصاد المعرفة، وشعوب ذوي مهارات متقدمة، قادرة على التنافس مع الشعوب الكورية، والأمريكية، والألمانية، في الصادرات التقنية. ولكن لا تتعارض هذه الخطة مع تصدير الضيافة الخليجية، بل قد يكملان بعضهما البعض، عن طريق ترسيخ الهوية الخليجية. وبأية حال، كما قالت الأديبة الإنجليزية فرجينيا وولف، “لا يمكن التفكير الصحيح، أو الحب الصحيح، أو النوم الصحيح، إن لم تتناول عشاءً صحيحاً”.