علّق مارك توين: “كل ما تقل المبررات لدى تقليد ما، كل ما يصعب التخلّص من هذا التقليد”. فيشكّل الدعم للسلع في دول مجلس التعاون تقليداً من الصعب جداً تبريره؛ إذاً ربما هناك دور للمبدأ الذي ذكره مارك توين في تفسير بعض التحديات التي واجههتها الحكومات الخليجية خلال محاولاتها على خفض الدعم. وتُقدّم الانحيازات في طريقة تفكير البشر عوائقاً إضافية أمام أصحاب القرار حين إجراء إصلاحات في نظام الدعم.
نصح الخبراء الاقتصاديون دول مجلس التعاون بإلغاء أنظمة الدعم منذ زمن طويل، زمن يسبق انهيار أسعار النفط لدى عام 2014، والضغط المالي الذي تسبب فيه. طُرحت فكرة الدعم أصلاً كوسيلة لرفع مستوى المعيشة لدى الأسر ذات الدخل المحدود، من خلال خفض أسعار بعض السلع الأساسية التي يستهلكونها.
واليوم، أصبح الدعم يشبه استخدام سيارة فراري للتنقل من غرفة جلوس منزلك إلى المطبخ: وسيلة مكلفة جداً، وغير فعالة للغاية.
لاستيعاب السبب، لاحظ أن لأجل مكافحة الفقر بشكل فعّال، ينبغي على نظام الدعم أن يخفّض أسعار السلع التي تستهلكها الأسر ذات الدخل المحدود، دون تغيير أسعار السلع التي تستهلكها الأسر الثرية؛ مثلاً النقل العام، فهو خدمة تستخمها الطبقة ذات الإمكانيات المحدودة بالأساس، بينما يستخمها الأثرياء نادراً ما.
وتستوفي أنظمة الدعم الخليجية بالشرط الأول، بينما تفشل فشلاً كبيراً في الاستيفاء بالشرط الثاني، حيث أن السلع المدعومة، كالكهرباء، والماء، والوقود، والطحين، تستهلكها الأسر ذات الدخل المحدود، وتستهلكها أيضاً الأسر الثرية ولكن بمقادير أكبر للغاية؛ نتيجة لمنازلها الكبيرة، وسياراتها القوية، وحفلاتها البذخة.
إذاً، مقارنة بنظام دعم مادي مباشر للأسر ذات الدخل المحدود، أو مقارنة بتحديث قائمة السلع المدعومة، فتؤدي أنظامة الدعم الخليجية الحالية إلى إعادة توزيع الموارد من الفقراء إلى الأثرياء، مما يجعل مفعولها عكسياً بالأساس.
ولكن احتراماً لمبتكري أنظمة الدعم الخليجية، فإنها كانت خياراً مناسباً في أثناء إطلاقها، حيث أن كانت الإمكانيات المادية لدى معظم الأسر متواضعة؛ وبالإضافة إلى ذلك، لم تتوفر الوسائل المطلوبة لتقديم دعم مادي مباشر بحسب الإمكانية، كقواعد بيانات رقمية، وإحصاءات دقيقة للسكان. ولكن الاقتصاد الخليجي لدى القرن الحادي والعشرين يختلف بشكل كبير عن جده الأعلى ذي القرن العشرين.
تغاضياً عن مسئلة الفعالية، فإن أنظمة الدعم مكلفة جداً؛ لأنها تؤدي إلى الإسراف، فححقت دول مجلس التعاون مستويات رفيعة من حصة الفرد في استهلاك الطاقة عالمياً، ويعود ذلك إلى أسعار الطاقة التي تُخفَّض بشكل غير طبيعي. ويتسبب ذلك أيضاً بضرر بيئي من السهل تفاديه، كنتيجة فرعية. وعلى الرغم من ذلك، حتى إن أنشأت المحكومات الخليجية منظومات دعم مادي مباشر للأسر ذات الدخل المحدود تعويضاً عن رفع الدعم للسلع، فإنها ستواجه صعوبة في التغلب على انحياز سلوكي يدعى «كره الخسائر».
وتمهيداً لتجربة علمية شهيرة، حينما يقدَّم لشخص ما خيارٌ بين كوب مجاني وشوكولا مجاني، فعادة يفضل المشارك الكوب في 50% من الأحيان، والشوكولا في الـ 50% الأخرى، مما يؤكد للباحث أن البضاعتين لديها نفس القيمة تقريباً. ولا ظاهرة غريبة إلى الآن.
ويصبح السلوك البشري غريباً حينما يختار الباحث أحد البضاعتين عشوائياً ونيابة عن المشارك، بناءً على رمية نقد معدني، ويمنحه المشارك، بدلاً عن إعطائه الخيار بين البضاعتين. فبعد استلام الكوب أو الشوكولا، والاحتفاظ بالبضاعة لدقيقتين، يعرض الباحث على المشارك فرصة استبدال البضاعة التي استلمها من الباحث، بالبضاعة الأخرى، مجاناً. فماذا يحصل؟
مبدئياً، يفترَض أن يتم الاستبدال في 50% من الحالات، لأن رمية النقد تضمن استلام المشارك للبضاعة التي يفضلها باحتمال 50%. ولكن في الواقع، يتاجر المشارك ما مُنح به بالبضاعة الأخرى بنسبة تقل عن 30% من الحالات، مهما كانت البضاعة الأولى.
وتأتي هذه الظاهرة، التي تدعى أيضاً «ظاهرة الامتلاك»، نتيجة لشعور البشر بتعلّق غير منطقي بالبضائع التي يملكها. ولذا نجد أن في معظم الحالات، يرفض شخص ما بيع قلمه الشخصي القديم مقابل دولار واحد، على الرغم من قدرته على شراء قلم جديد بمجرد عُشْرِ دولار. وتبرِرُ هذه الظاهرة أيضاً لماذا يعترض الناس بحماس حينما تُهدد الحدائق العامة القائمة بإلغلاق، بينما لا يقدمون إلا دعماً ضئيلاً للمقترحات التي تطرح إنشاء حدائق عامة جديدة. وعموماً، تشكّل ظاهرة «كره الخسائر» مشكلة لأصحاب القرار حينما يرغبون في استبدال فائدة قائمة وغير فعّالة، بفائدة جديدة فعّالة، لأن لمعظم الناس، الانزعاج الذي ينتج من فقدان شيء يملكونه، أكبر من الفرح الذي ينتج من الحصول على شيء لم يملكونه من قبل، حتى ولو كانت الفائدتان متساويتين بناءً على نظرة موضوعية.
وفي دول مجلس التعاون، اقتنعت الحكومات بعدم فعالية أنظمة الدعم، وتنظر في مختلف الوسائل المتاحة لتعويض المواطنين عن رفع الدعم، كدعم مادي مباشر بحسب الإمكانية، أو بطاقات تموين. وعلى الرغم من حكمة هذا التغيير من الجانبين الأخلاقي والاقتصادي، فقد اعترضت الأسر ذات الدخل المحدود بطرق مختلفة، منها انتشار الانتقادات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتهديد بحظر السلع التي رُفع عنها الدعم.
وليس هذه الاعتراضات مجرد ظاهرة «كره الخسائر»، بل تأتي إصلاحات الدعم في وقت تشهد فيه الحكومات تراجعاً عاماً في إمكانياتها الاقتصادية؛ بسبب انخفاض سعر النفط. وعلى سبيل المثال، كان المواطنون الخليجيون شبه موعودين بوظائف في القطاع العام، مع رواتب رفيعة؛ ولكن صرحت الحكومات الست أن أصبحت مثل هذه الرفاهيات غير قابلة للاستدامة. ولكن لا شك أن هناك دوراً للتعلّق غير العقلاني عند البشر لما يملكونه ويمسونه بيديهم، في تبرير الاعتراض الشديد الذي تلقاه مشروع إصلاح الدعم الراهن.
وكيف يمكن للحكومات الخليجية مرواغة ظاهرة «كره الخسائر»؟ فقد قدّمت الأبحاث الرصينة توصيات عملية حول المضادات للظاهرة، لاسيما منح الناس خبرة مكثفة في الامتلاك والتنازل عن بضاعة معينة؛ ولكن لا تفيد مثل هذه الاقتراحات أصحاب القرار الذين ينظرون في تنفيذ إصلاحات اسنثنائية، لأنظمة رسخت منذ عقود.
مهما كانت العوائق أمام إصلاح أنظمة الدعم، فتشكل الحاجة لتنفيذ الإصلاحات حالة نادرة لتداخل الآراء للاقتصاديين، وعلماء البيئة، وعلماء الأخلاق؛ وبالتالي ينبغي على الحكومات الخليجية عدم التراجع. فقد علّق إبراهيم لينكولن: “أمشي ببطء، ولكنني لا أمشي إلى الخلف أبداً”.