خلال العصرين الأموي والعباسي، صعد العرب والمسلمون إلى قمة العالم اقتصادياً (وفكرياً وفنياً ..إلخ)، حيث أسفرت قوانين التجارة الشرعية الجديدة عن ازدهار غير مسبوق، وأصبحت الرغبة في المشاركة في هذا التقدم الاقتصادي أحد أسباب انتشار الإسلام إلى الصين وإندونيسيا. ولكن بعد النهضة في القرن الخامس عشر، تجاوزت دول أوروبا الغربية العرب اقتصادياً مرة أخرى، ولم ينعكس اتجاه هذا التيار حتى الآن رغم تطوّر اقتصادي ملحوظ شهدته دول مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه في 1981. وقام الاقتصادي التركي تيمور قرآن بتحليل أسباب تراجع العرب اقتصادياً.. هذا التراجع الّذي بدأ في العصر العثماني ولم يتوقّف حتى بعد انهيار الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. ويحدد الباحث قرآن كأحد أسباب ذلك التقهقر عدم الأخذ بمبدأ تولية العهد لأكبر الأبناء الذكور لحاكم راحل وأثناء حياة الأخير، في الثقافة العربية. وقد تبنّت الملكيّات الأوروبية ذلك المبدأ في القرون الوسطى. وهنا يبرز سؤال: لماذا يمكن أن يكون لموضوعٍ سياسيّ بامتياز – كقانون تعيين ولي العهد – أثر اقتصادي كبير؟ ينبغي على الملوك تبنّي منظومة شفّافة وبسيطة لتحديد وليّ العهد؛ لسببين: أولاً: يفتح الجدل حول هويّة ولي العهد – في حال عدم التحديد – مجالاً لصراعٍ بين كتلٍ تدّعي الحقّ في السلطة، وقد يكون الصراع بحدّ ذاته مكلّفاً اقتصادياً. فحروب أهليّة كثيرة شهدتها البشرية في أنحاء العالم بدأت بصراع حول السلطة، وأدت إلى خسائر بشريّة واقتصاديّة مؤسفة؛ حيث تُنقل جهود البشر من العمل والإنتاج إلى القتال وصناعة الأسلحة. وهذا هو ما حصل في إنجلترا في منتصف القرن الخامس عشر خلال عهد هنري السادس: مرض الملك وتمّ تعيين دوق يورك كقائم بأعمال الملك، واغتنم فرصة لترسيخ أسرته في الحكم، ولكن حينما صحا الملك هنري اندلع صراع استمر 20 سنة، وعُرف بحرب الورود (War of the Roses). وواجه حفيده الملك هنري الثامن صعوبات اقتصادية عديدة؛ بسبب الجدل حول ولي عهده، فكان ابنه الذكر الوحيد إدوارد السادس مريضاً وصغير السن، ولم تحكم إنجلترا ملكة قبل تتويج ميري الأولى بنت هنري الثامن، وهذا بعد انقلاب فاشل. وتضرّرت أيضاً الدولة العثمانية من مشاكل شبيهة نَجَمَت عن صراعات بين أبناء الخليفة حول السلطة بعد وفاته. ثانياً: يقوم التطوّر الاقتصادي على استثمارات بعيدة المدى، وتستدعي تلك الاستثمارات ثقة أصحابها حول حماية حقوق الملكيّة والأمن والاستقرار؛ فلن يبني الرأسمالي مصنعاً يوظّف ألف مواطن، إنْ شعر أنّ حكومة مستقبليّة غير متوقّعة ستفرض ضرائب غير مسبوقة على مشروعه، أو إنْ خاف أنّ حكومة مركزية ضعيفة لن تحميه من جماعات مسلّحة تبتزّ أصحاب المشاريع الناجحة. ولذا، نرى أنّ الاقتصاديْنِ السوري والليبي انهارا مؤخّراً في ظلّ تفجّر الحرب الأهليّة فيهما. وتتعرّض الجمهوريّات تحديداً لخطورة من هذا الجانب؛ بسبب عدم اليقين حول ما سيحصل بعد وفاة الزعيم. وهذا أحد أسباب صمود ملكيّات الشرق الأوسط أمام التحديّات السياسيّة التي برزت في 2011، ومنها البحرين والكويت والسعودية والأردن والمغرب. حَكَمَ أبناء عبدالعزيز آل سعود المملكة العربية السعودية بالتسلسل – منذ وفاته في 1953 – ودون جدل ملحوظ حول الخلافة بشكل عام. ولكن خلال آخر عشر سنوات، ظهرت صعوبات في منظومة الخلافة؛ لأنّه لم يتمّ الاتفاق بشكلٍ علنيّ على ما سيحدث بعد وفاة آخر أبناء عبدالعزيز. وعلى سبيل المثال، حينما انتقل نايف بن عبدالعزيز إلى رحمة الله في منتصف 2012 – وهو في منصب وليّ العهد – اعتبر المحلّلون الغربيّون الحادثة حلقة في سلسلة انهيار عهد آل سعود، وتُدُووِلَتْ مقالاتٌ وأبحاثٌ عديدة، تتنبّأ بصراعاتٍ شبه مؤكّدة بين أحفاد عبدالعزيز. ولكن بعد وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في يناير 2015، اغتنم الملك سلمان الفرصة لحسم الموضوع؛ تفادياً للمشاكل التي توقّعها المحلّلون الغربيّون منذ زمن طويل. فبعد مرور ما يقلّ عن 24 ساعة على وفاة الملك عبدالله، تمّ تعيين الأمير محمد بن نايف كوليّ وليّ العهد، وهو أولّ حفيد لعبدالعزيز يحتلّ المنصب. وأحد أسباب أهميّة الخطوة التي اتخذها الملك سلمان هو سرعة اتخاذ القرار، وعدم بروز أيّ صوت معارض من داخل الأسرة الحاكمة، حتى لو كان هناك من يشعر أنّه أولى بالسلطة من الأمير محمد بن نايف. فأرسلت أسرة آل سعود رسالة واضحة للمستثمرين والرأسماليّين: لا تخافوا، تمَّ تضبيط الأمور، وإن شاء الله لن يندلع صراع يضرب في مصلحتكم، فتاجروا، واستثمروا، وابنوا مستقبل الوطن على أرضٍ صلبةٍ. وما يدلّ على استمرار السعودية في تنفيذ رؤيتها الاقتصادية هو عدم تغيير أصحاب أهمّ المناصب الاقتصادية، برغم العدد الكبير من التغييرات الأخرى: فثبت كل من وزير المالية (د. إبراهيم العساف) ووزير الاقتصاد والتخطيط (د. محمد الجاسر) ووزير النفط (م. علي النعيمي) ووزير العمل (م. عادل فقيه) ووزير التجارة والصناعة (د. توفيق الربيعة). وقدّم أيضاً الملك سلمان هبة لكلّ موظفي القطاع الحكومي بلغت قيمتها راتبين شهريّين؛ لتعزيز ثقة أصحاب المصلحة في الاقتصاد السعودي. أثبتت أمثلة ليبيا والعراق والجزائر أن الثروة النفطية لا تضمن الازدهار الاقتصادي، كما أن أثبت مثلا البحرين ودبي أن الثروة النفطية ليست ضرورية للازدهار الاقتصادي. يقوم النمو الاقتصادي على استثمارات طويلة المدى مما يتطلب بيئة تتميز بالأمان والاستقرار. هذا هو ما تم خلقه في دول الخليج العربي الحمد لله، وخطت السعودية خطوة محورية في هذا الاتجاه حينما رتبت الخلافة بشكل فوري وشفاف.
Posted by : admin
Comments:
0
Likes:
0
Share
Related posts
0
0
الدلالات الاستراتيجية لتأسيس مكتب اتصال للناتو بالأردن
Posted by :
badria
0
0
تقرير حول دور التعاون الصناعي والأكاديمي في دفع عجلة تحول الطاقة
Posted by :
badria
0
0
ملتقى مركز الخليج للأبحاث بجامعة كامبردج 2024
Posted by :
badria
0
0
Derasat Journal 2023 – Issue 2
Posted by :
admin
0
0
كوارث البيئة البحرية وتأثيرها في المنطقة
Posted by :
badria
0
0
Three Days in the Arab House
Posted by :
badria
التشاؤم المناخي لا يقدم حلاً
Posted by :
badria
0
0
هل تستبدل تقنيات الذكاء الاصطناعي الوظائف البشرية؟
Posted by :
badria
0
0
مَن وراء التغيّر المناخي؟
Posted by :
badria
0
0
التكنولوجيا والبيئة.. أصدقاء أم أعداء؟!
Posted by :
badria