لماذا تتقدم بعض البلدان عن الأخرى في العلوم والتكنولوجيا؟
إن التقدم في العلوم والتكنولوجيا ضروري لنهضة الاقتصادات والأسواق في العديد من بلدان العالم. ويعتبر هذا السؤال البحثي أكثر الأسئلة أهمية لصناع السياسات اليوم وأقله فهما في نفس الوقت، وهو معرفة ما الذي يجعل بعض البلدان تتقدم عن الأخرى في العلوم والتكنولوجيا؟ فهل من الممكن أن تكون الإجابة على علاقة بسياسة معينة تتخذها السلطة السياسية؟ أو أنه يتعلق بموارد رأس المال والموارد البشرية الماهرة التي توجد في بلد ما؟ أو أنه يتعلق بحجم السوق وتنوع القطاعات والصناعات؟ أو أنه نتاج جودة التعليم أو ثقافة مجتمع؟ وللإجابة عن هذا السؤال المعقد، سوف نطرح الآراء العلمية التي قدمها مارك تايلور في كتابه سياسة الابتكار، حيث أسهم في حل هذا اللغز من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة مهمة: الأول، ما الذي يشجع الدولة على الابتكار؟ ثانياً، كيف يمكن للبلدان أن تبتكر؟ ثالثاً، لماذا تبتكر بعض البلدان بشكل أفضل عن غيرها في العلوم والتكنولوجيا على المدى الطويل؟
بادئ ذي بدء، وللإجابة عن السؤال الأول، تقوم بعض البلدان باللجوء إلى الابتكار لأنها تعتقد أنها تقوم بمعالجة تحد معين أو لأنها تريد أن تكون متقدمة في مجال محدد أو غيرها من الأسباب المختلفة، ولكن تختلف العوامل التي تجعل البلدان تبتكر عن غيرها. وفي كتابه، بدأ المؤلف بتحديد الدول الأكثر ابتكارا والدول ذات التقدم السريع في الابتكار. أما الدول الأكثر ابتكارا فصنفها كالآتي: الولايات المتحدة واليابان والسويد وكندا وسويسرا وألمانيا، ثم الدول ذات التقدم السريع في الابتكار كفنلندا وتايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وإسرائيل. الجدير بالذكر أن هذه البلدان مختلفة تماما عن بعضها البعض في السياسة والاقتصاد إلى جانب المجتمع والثقافة. ووفقا للمؤلف، فإن حجم الاقتصاد، وندرة الموارد، والإنفاق العسكري، ووفرة العمالة لا تعتبر من الأسباب الرئيسية التي تجعل البلدان مبتكرة. فعلى سبيل المثال، الدول التي تستثمر بشكل واسع في جيشها كالولايات المتحدة ليست أكثر ابتكارا من تلك التي لا تنفق على جيوشها، مثل سويسرا. وعلى نحو مماثل، فإن السياسات الاقتصادية لا تؤثر على الابتكار بشكل كبير، فمثلاً اليابان وسنغافورة والولايات المتحدة والسويد وغيرها لديهم سياسات اقتصادية مختلفة اختلافا جذريا عن بعضهم البعض، ومع ذلك تظل كل منها مبتكرة على حسب السياسة الاقتصادية المتبعة لديها. ويؤكد المؤلف أن النظام السياسي كالديمقراطية لا تلعب دورا كبيرا في نجاح الابتكار في البلدان، فالصين والولايات المتحدة تختلف في أنظمتها السياسية، ومع ذلك فانها دول مبتكرة ومتقدمة اقتصاديا.
وللإجابة عن السؤالين الثاني والثالث، فهناك سببان يجعلان الدول مبتكرة. السبب الأول يعود إلى كيفية بناء البلدان شبكاتها أو ما يسمى بـ«النظم البيئية للابتكار». ومن المرجح أن تصبح البلدان متقدمة في الابتكار عندما تكون قادرة على الجمع بين القوى العاملة الماهرة، وتزويدها بالموارد، ثم بناء روابط بينها وبين قطاع الأعمال في الابتكار. ويركز النظام البيئي للابتكار على أن تتدفق التكنولوجيا والمعلومات بين الناس والشركات والمؤسسات. كما يعتمد على تفاعل الجهات في القطاعين العام والخاص لتحويل الفكرة إلى عملية أو منتج أو خدمة في السوق. وهناك ستة عناصر رئيسية لنظام بيئي مبتكر: 1) القوى العاملة و2) الأسواق و3) والسياسات، و4) الثقافة و5) والتمويل و6) ودعم البنية التحتية. ونذكر هنا دراسة لحالة دولة نجحت في عملية الربط هذه. ففي أواخر عام 1960م، أنشأت إحدى الدول في منطقة الشرق الأوسط وحدات نخبة العلوم والتكنولوجيا في الجيش. وأثناء تطوير أحد التقنيات والمشاريع الجديدة، بدأت بعض الشركات التكنولوجية الخاصة الأمني وغير الأمني في الظهور، غالبا بتمويل جزئي أو منح من الحكومة. وغالبا ما يعمل رواد الأعمال في هذه الدولة في القطاع العام، ثم يعودون مرة أخرى إلى عالم ريادة الأعمال، وأن هناك شعورا بالثقة بين العاملين في القطاعين العام والخاص وتشجيع على الابتكار. فهنا، يشدد المؤلف على أهمية وجود وحدات للبحث والتطوير والابتكار في المجال الحكومي.
ذكر المؤلف أن هناك مخاوف من تمويل العلوم والتكنولوجيا والابتكار العلمي على حساب دعم المشاريع الحكومية كالبنية التحتية والرعاية الاجتماعية والصحية أو التخفيضات الضريبية التي تستحق الدعم أكثر من البحث العلمي. ففي بعض الأحيان، فإن تمويل العلوم والابتكار قد يقضي على الوظائف أو حتى الصناعات بأكملها على الرغم من أن الابتكار غالبا ما يؤدي إلى فوائد اقتصادية واجتماعية. كما أنها مهمة لرفع الإنتاجية في القطاعات والصناعات. إذ إنه حتى إن قضى الابتكار على بعض الوظائف، إلا أنها تخلق وظائف ومجالات جديدة تعطي الآخرين الفرصة للالتحاق بها وبمرتبات أكبر.
أما السبب الثاني الذي يجعل البلدان مبتكرة على المدى البعيد، فيعود لطريقة استجابتها للتهديدات. هنا، تود العديد من البلدان أن تظل قادرة على المنافسة والاستدامة وأن ترى أن خطر التخلف عن الركب هو الدافع الرئيسي لها. على سبيل المثال، قامت الولايات المتحدة بتسريع أبحاثها في الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر كي لا تتخلف عن الصين، كما أنها وبعد انتهاء الحرب الباردة، أرادت الولايات المتحدة المنافسة اقتصاديا ورفع المعدل الذي تصدر فيه السلع والخدمات، وبالتالي بدأت تركز أكثر على الابتكار.
وفي بعض الدول الأكثر ابتكارا كسنغافورة، توجد هناك أقسام خاصة في جهات حكومية يقوم المطورون فيها ببناء مشاريع وتقنيات حديثة أو المساهمة في وضع دراسات جديدة لمعالجة بعض التحديات الاقتصادية أو القطاعية أو لتسهيل الخدمات المقدمة في السوق، أو لمواجهة تهديدات معينة أو بهدف جعل سنغافورة الرائدة عالميا في مجال الابتكار التكنولوجي. إذ إن الحاجة إلى الباحثين والمبتكرين مهم لدفع عملية التطور في معالجة التحديات في الاقتصاد. وأن التعاون بين القطاعين الحكومي وقطاع الأعمال مهم لبناء المشاريع وللوصول إلى هذه الأهداف، ولكن هذا يعتمد بشكل كبير على ما إذا كانت عملية التعاون هذه أو «النظم البيئية للابتكار» مشجعة أو مثبطة في الدول.
المصدر: أخبار الخليج
علي فقيه، باحث مشارك